ولادتي وطفولتي
تحتفظ عائلتنا بكتاب صلوات كان قريناُ عزيزاً للمرحوم والدي ومرجعاً لحياته الدينية، إسمه كتاب يسوعي الكبير، وقد استخدم والدي كغيره من أبناء زمانه الصفحة الأولى من هذا الكتاب الأثير ليسجل تاريخ ولادة أبنائه وبناته، وقد دوّن في السطر الأول: "ولدنا كوستي ولد في [5] نيسان شرقي 1909". وبذلك تكون ولادتي حسب التقويم الغربي السائد اليوم في الثامن عشر من نيسان سنة ١٩٠٩
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
-
ولدت في دمشق في حضن أسرة من الأسر المتوسطة الحال وفي رحاب طائفة من الطوائف المسيحية – طائفة الروم الأورثوذكس التي عرفت بقلة تعصبها وبميلها إلى التعاون مع أتباع الأديان والطوائف الأخرى في ما يؤدي إلى المصلحة الوطنية الشاملة وقد تزوج جدي قسطون فتاة من عائلة دمشقية عريقة، عائلة "شامية" وأنجب منها ثلاثة أبناء أكبرهم والدي قيصر وبعده توفيق والياس، وابنتين. أما والدي قيصر ،وكان أكبر إخوته، وعمي توفيق والياس فكان نصيبهم من الهجرة في بلاد كولومبيا في أميركا الجنوبية، وقد اتبعا في ذلك المجرى الذي كان – وما زال إلى حد بعيد – يشق طريق الهجرة وعند ولادتي اختار لي والدي إسماً سبب لي في حياتي متاعب كثيرة تيمنا بإسم جدي "قسطون" وأصله "قسطنطين" العائد إلى الإمبراطور البيزنطي قسطنطين .[ …. ] ويُحّور إسم "قسطنطين" بأشكال مختلفة منها قسطون وقسطاني وقسطا وقسطندي الخ. وكان إطلاقه على طفل ثقيلاً على السمع. قد كنت، كما قلت، إبن والدتي الأول، وتلتني شقيقتي فوم (نسبة إلى القديسة فوميا أو ايفيميل) ، وشقيقي إدوار، وشقيقة ثانية روز
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وكانت أسرتنا – بيت زريق – تقطن داراً من الدور الدمشقية الواسعة، وتشترك عوائلها – كما كانت العادة – بساحات تلك الدار ودواوينها وغرف استقبالها وحدائقها وتملأ صحن الدار رفوف وصفوف من "الأحواض" التي تغرس فيها أنواع الزهور فتكون حديقة نضرة يسلو بها أفراد العائلة (وخاصة نساؤها) اللواتي يقضين معظم أوقاتهن داخل الدار ويتقاسمن واجبات العناية بالأحواض والزهور وينافسن أهل الديار الأخرى على حسن منظرها وطيب أريحها ويسبحّن بها الله تعالى صباحاً ومساءً
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
يضاف إلى هذه المؤثرات الأولى كوني ولدت ونشأت في دمشق المدينة العريقة بتاريخها المديد العائد إلى أقدم الأزمنه والبارز في العهود العربية خاصة، بدءاً بالأمويين وامتداداً إلى العصر الحاضر – تلك العهود التي تنطق بأمجاد العرب الباهرة في هبتهم الأولى، ثم بما اعتراهم من وهن وهوان بعد تفكك الحكم العربي وتراجع الحضارة العربية الإسلامية
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
ومن جهة أخرى، كانت القيمرية تقع على مسافة قصيرة من الباب الشرقي للجامع الأموي، وتؤدي جنوباً عبر أسواق ودكاكين ضيقة موروثة من العهود السابقة، أما إلى الباب الغربي لهذا الجامع، فسوق الحميدية (وهو أشهر شارع تجاري في دمشق)، فشارع جمال باشا (شارع "النصر" الآن) وساحة المرجة. وأما عن طريق مأذنة الشحم إلى السوق التجاري الآخر الكبير – سوق مدحت باشا – فالعمارة فالميدان وهما منصة الإتصال بين دمشق وحوران وكانت الدار قريبة من مركز الطائفة الأورثوذكسية المتمثل بدار بطريركيتها وبكاتدرائيتها المريمية الشهيرة، ومحاذية بالوقت نفسه، لإحدى مناطق الأكثرية المسلمة. وهكذا تعاونَت أرثوذكسيتي المسالمة المتسامحة، وقربي من مواطنيّ المسلمين، الذين كنت أصابحهم وأماسيهم كما يقال، وألتقيهم في "حارات" المنطقة المجاورة لمنزلنا و"زواريبيها"، في صوني من شرور التعصب الديني أو الطائفي وإعدادي للإتجاه القومي العلماني الذي اتخذته في سنواتي التالية
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة