العائلة
بقي أمر آخر في عهد فتوّتي، لا شك أنه ترك أيضا أثر في ما تلاه من سنوات عمري، وهو وفاة والدي بعيداً عنا خلال زيارة لجمهورية كولومبيا، أحد بلدان المهجر في أميركا الجنوبية. فقد قضى شبابه في ذلك البلد عاملاً في حقل التجارة قبل أن يعود إلى الوطن قبيل الحرب العالمية الأولى ليتزوج ويُنشئ عائلة. ولم يتخذ له عملا دائما في دمشق بسبب تلك الحرب وأهوالها وتطلعه المستمر إلى معاودة الهجرة إلى كولومبيا. جاءت وفاته بصورة مفاجئة ودون أن يكون قد حصّل ذخيرة مالية تكفي لإعالة عائلته في الوطن المؤلفة من زوجته وأولاده الأربعة. وكنت حينذاك في الخامسة عشرة من عمري طالباً في السنة الأولى من دراستي الجامعية في بيروت. ومنذ ذلك الوقت المبكر، أخذت أحس بمسؤولياتي المادية والأدبية نحو عائلتي بصفتي الإبن الأكبر فيها. وقد نَفذ هذا الحس إلى مختلف جوانب نفسي وتغلب على غيره من الأحاسيس والنزعات، وطبع حياتي وتوجهاتي جميعاً بطابع الجد والمثابرة في تقصّي الواجب والسعي إلى إيفاء مطالبه
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وقبل أن أنهي الكلام عن هذه المرحلة من حياتي، لا بد من أن أشير إلى التحول الرئيسي الذي حدث في هذه المرحلة من حياتي الشخصية. فقد كنت عام ١٩٢٧ عندما انتدبتني الجامعة للتدريس في مدرسة برمانا العالية الصيفية لاختبار أهليتي في التعليم قد تعرفت بفتاة كانت صديقة لشقيقتي في المدرسة الأميركية للبنات حيث كانتا من تلامذتها، وهي الآنسة نجلا قرطاس من أسرة لبنانية عريقة، كان أبوها وأمها من أسرة مدرسة الفرندز في برمانا التي كانت تستضيف القسم الإستعدادي في الجامعة في دوراته الصيفية. وكانت أسرتها تقطن في بناء لهذه المدرسة، وبهذا توثقت معرفتي بهذه الأسرة وبفتاتها نجلا، ثم ازدادت هذه المعرفة توثقا في السنوات التالية، فتقدمت إلى خطبتها في أواخر عام ١٩٣٩ واقترنا في٢٠ حزيران ١٩٤٠، وعشنا فيما بعد على اتفاق وصفاء وتحملنا معا حلو الحياة ومرّها، وأنجبنا بناتنا الأربع: الهام، وهدى، وعفاف وحنان، اللواتي تميزن بمواهب مختلفة، وهن قرّة أَعيُننا ومدار اهتمامنا في هذه المرحلة الأخيرة من حياتنا
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة