السنوات الجامعية الأولى
و "صدف" أن زار دمشق في ربيع أو صيف عام ١٩٢٣ الدكتور فيليب حتي ، أستاذ التاريخ في الجامعة الأميركية في بيروت، تلبية لدعوة "النادي الأدبي" و هو نادٍ أسسه شبان الطائفة الأرثوذكسية المثقفون. و صحبه في زيارته أخوه الدكتور يوسف حتي ، أحد أساتذة الطب في الجامعة الأميركية في بيروت حينذاك، والذي كانت خالتي نجيبة قد تعرفت به خلال دراستها في مدرسة التمريض و عملها في مستشفى الجامعة الأميركية. فدعت الدكتور فيليب و الدكتور يوسف و بعض أصدقائهما إلى حفلة عشاء، قدمتني خلالها لهما و أثنت علي و أطلعتهما على العلامات التي نلتها في دراستي الثانوية. وكانت النتيجة أن أعطاني الدكتور فيليب بصفته أحد أعضاء جمعية "تهذيب الشبيبة السورية" (التي كانت تجمع المعونات لمساعدة الطلاب في الجامعة الأميركية في بيروت) بطاقة إلى إدارة الجامعة بمنحي ستين ليرة سورية من صندوق الجمعية إعانة لي عند التحاقي بالجامعة
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
و كنت أطمح إلى دخول كلية الآداب و العلوم في الجامعة بعد تقديم امتحان الدخول إلى السنة الأولى (الفرشمن)، و لكن أشير علي بسبب صغر سني (الرابعة عشر) و اختلاف منهاج دراستي الثانوية عن المنهاج الذي يُعد للجامعة، أن أتقدم لامتحان السنة الأخيرة من القسم الاستعدادي فيها، فحزمت أمري على ذلك و أخذت أهيئ نفسي له وفي صباح أحد أيام خريف ١٩٢٣ أوصلني والدي مع عفشي إلى "محطة البرامكة" حيث ركبت مع رفيقي القطار الذي كان يقضي النهار كله لبلوغ بيروت، فوصلناها في المساء واستقلينا عربة حملتنا إلى أحد منازل الطلبة في القسم الاستعدادي، فكانت ليلتي الأولى فيه من أشد ليالي وطأة إذ شعرت بفراق أهلي وبالابتعاد عن بيتي للمرة الأولى و بالرهبة من مجابهة العالم الجديد المجهول الماثل امامي وكان صفنا يعد حوالي مائة تلميذ مقسمين على أربع فرق (أ ،ب ،ج ،د) و كنت في الفرقة ب
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
والجدير بالذكر أن إدارة القسم الاستعدادي كانت، بالاضافة إلى هيئتها التعليمية المكونة من الأساتذة الثانويين ذوي الكفاءة والخبرة الطويلة في التعليم، تستعين ببعض أساتذة الجامعة لتدريس بعض المواد، منهم الأستاذ أنيس الخوري المقدسي الذي كان يدرس فرقتنا اللغة العربية و الأدب العربي، و الدكتور فيليب حتي الذي كان يدرس في إحدى الفرق الأخرى مادة التاريخ والأستاذ ستيورت كروفورد أستاذ علم الأخلاق. أما أساتذة صفنا في القسم الاستعدادي خاصة فكانوا من اللبنانيين: نجيب خوري (الرياضيات)، نجيب نصار (اللغة العربية)، فايز أسعد (الفيزياء)، أو من الشبان الأميركيين ، و منهم ولتر ريتشر وولتر رايت الذي كان متضلعاً في مادة التاريخ و يحسن تعليمها و الذي تقلب في وظائف عديدة إلى أن أصبح رئيس كلية روبرت في استامبول
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
في خريف عام ١٩٢٤ التحقت بكلية الآداب والعلوم في الجامعة الاميركية في بيروت. وكان بعض دروس السنة الأولى (الفرشمن) من هذه الكلية دروساً تثقيفية عامة وبعضها تهيىء لإختصاصات تالية. ولما كانت علاماتي في الرياضيات مرتفعة وكنت أميل الى هذه المادة، فقد توجهت لإعداد نفسي لدراسة الهندسة، وكانت حينذاك في الكلية المذكورة. وقضيت في الكلية أربع سنوات هي من أحلى سنوات حياتي ومن أشدها أثراً في تكويني الذهني والخلقي
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
أما من حيث برنامج الدروس التي تلقيتها في الجامعة ، فأخص بالذكر الأثر الإيجابي الذي كان للرياضيات والعلوم الطبيعية التي رجحت على غيرها في برنامجي. فقد دربتني هذه الدروس على مطالب الالتزام والدقة في التفكير وعلى ضوابط التسلسل المنطقي والوضوح التعبيري في ما أعالج من موضوعات
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
كان لتلك الفترة الدراسية، الجامعية منها بخاصة، آثار عميقة في تكوني العقلي وتوجهي السلوكي، الأول مصدره طبيعة الجامعة الأميركية في تلك الفترة من الزمن. جاءت هذه الجامعة خليفة للكلية السورية الإنجيلية التي أنشئت عام ١٨٦٦ بجهود فرقة بروتستانتية أميركية تبشيرية. لكن القائمين على شؤون هذه المؤسسة التعليمية ما لبثوا أن أدركوا عقم عملية التبشير الديني، فتحولت الكلية أولا، والجامعة في ما بعد، الى مؤسسة للتعليم العالي لتنشئة الطلاب على التثقيف العقلي والتهيؤ للخدمة الاجتماعية والوطنية. وكان هذا التحول قد بدأ في عهد رئيسيها الأول والثاني: دانيال بلس وابنه هاورد، اللذين توليا شؤونها في العقود الخمسة الأولى من تاريخها (١٨٦٦ – ١٩٢٠)، ثم ترسخ في عهد رئيسها الثالث بايرد ضودج (١٩٢٣ – ١٩٤٨) ومن العناصر التي أسهمت في خلق الجو الخاص بالجامعة وغذت نشاطها التعليمي وإشعاعها الثقافي، إقبال الطلاب عليها من مختلف البلاد العربية المجاورة
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة