دراستي التخصصية في الولايات المتحدة الأميركية
دبرت إدارة الجامعة منحة لسنتين (١٢٠٠ دولار كل سنة) لمتابعة دراستي في الولايات المتحدة الأميركية. ولم يكن مفروضاً أن تكفي هذه المنحة للدراسة المؤدية الى درجة الدكتوراه، بل كان المتوقع من نائل هذه المنحة أن يعود الى الجامعة ليدرّس فترة قصيرة، ثم يجد طريقة لمتابعة دراسته بعد ذلك، سواء على نفقته الخاصة أو بالفوز بمنحة تساعده على ذلك
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
ولما كنت حريصاً على الاستفادة من .... السنتين أكبر إستفادة ممكنة، فقد طلبت من إدارة الجامعة أن تسمح لي بتقديم امتحاناتي النهائية قبل موعد التخرج بأسبوعين أو ثلاثة لأتمكن من الالتحاق بالدورة الصيفية في جامعة شيكاغو.كانت جامعة شيكاغو من الجامعات البارزة (إن لم نقل الجامعة الأولى) في دراسات الشرق الأدنى، وقد قامت بفضل جيمس هنري برستد ، الباحث الشهير في تاريخ مصر وأثارها، وسخاء جون د. روكفلر" و قد تضمنت الجامعة المعهد الشرقي ، الذي كان له مقامه المميز بين مؤسسات الدراسات الشرقية في الولايات المتحدة الأميركية، بل في العالم بأسره
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وكما نزلت نيويورك وحيداً فريداً دون دليل أو مرشد، كذلك كان الأمر في شيكاغو، على أن خوفي كان فيها أشد وأثقل على روعي. فقد كانت هذه المدينة معروفة في ذلك الوقت بإنتشار العصابات فيها وبكثرة حوادث السطو والإجرام في مناطقها الواسعة وشوارعها المتشعبة. فتركت حقيبة ثيابي في إحدى خزائن المحطة، وسألت عن طريق الجامعة فأشير علي بركوب أحد القطارات المرتفعة عن الأرض السائرة فوق الشوارع وبالنزول في إحدى المحطات القريبة من الجامعة، وهكذا فعلت
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وأخذت أتنقل في ساحات الجامعة لأستكشف دوائرها وأبنيتها. وكان قد سبقني إليها قبل سنة رفيق لي في الدراسة في الجامعة الأميركية في بيروت هو السيد أنيس فريحة الذي تخرج قبلي بسنة (١٩٢٧)، واختارته إدارة الجامعة للتخصص في اللغات والآداب السامية تمهيداً لتدريس هذه المواد فيها فأخذت أسأل عنه الى أن اهتديت الى البناء الطالبي الذي يقطن فيه، فـ"تسمرت" على باب هذا البناء، أنتظره لأنه كان أملي الوحيد في أن أستطيع تدبير أموري في هذا المحيط الغريب الجديد. وبعد طول إنتظار قدِم أنيس فارتميت عليه أعانقه وألقي همومي على عواتقه. فلقد كانت هذه أول ساعة اطمئنان واستقرار بال حظيت بها بعد إختباراتي الصعبة منذ وصولي الى الولايات المتحدة الأميركية، بل منذ مغادرتي بيروت، لطراوة سني (كنت حينذاك في التاسعة عشرة من عمري) وقلة خبرتي إذ كانت حياتي السابقة في دمشق وبيروت هادئة ومنتظمة وضمن حدود ضيقة لا تُقارن بالمحيط الواسع والمجتمع المعقد اللذين واجهتهما
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
هذه هي الجامعة التي ولجت أبوابها في صيف عام ١٩٢٨ ، وقد بهرني فيها ما شهدت من تعدد الأقسام العلمية وكثرة الأساتذة المتميزين. وكانت، كعادتها في كل دورة صيفية تعج بالأساتذة الزائرين، وتنظم لهؤلاء الأساتذة، بالإضافة الى دروسهم الاختصاصية، محاضرات عامة في الموضوعات العامة التي تهم المحيط الجامعي. وقد أقبلت على هذه المحاضرات أعبّ من معارفها الذاخرة ما أستطيع، وأوسع أفقي العلمي والثقافي
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
كان محور دراستي كما قلت، "المعهد الشرقي". وكان المشرف على هذه الدراسة أستاذ الإسلاميات في المعهد الدكتور مارتن شبرلنغ، (الألماني الأصل) والمشبع بالروح العلمية والبحثية التي تميزت بها الجامعات الألمانية. درست عليه معظم الموضوعات التي كان بعالجها في التاريخ الإسلامي، كما كنت ألجأ إليه خارج الدروس لأسترشد بآرائه وباطلاعه الواسع على الأصول الإسلامية وعلى الدراسات الاختصاصية الجديدة فيها، وبخبرته في البحث العلمي التاريخي الذي كنت أتدرب عليه. على أني لم احصر اهتمامي بالمعهد الشرقي، على وفرة ما كان يقدمه للطالب، بل تعديته الى دوائر التاريخ والفلسفة والدين، واقتبست منها كل ما كان يمكن إقتباسه مما يتصل باختصاصي من قريب أو بعيد
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
ومن نيويورك انتقلت في خريف عام ١٩٢٩ الى جامعة برنستون، وهي من جامعات أميركا الأولى التي أشرت إليها فيما سبق. وكان محورها الأساسي "كلية الآداب والعلوم"، وهي تنزل من تلك الجامعات منزلة القلب – إنتقلت الى بقعة عريقة من بقاع إحدى الولايات الشرقية، الى "مدينة جامعية" بكل ما في هذه الكلمة من معنى، والى مناخ طبيعي، وإنساني يختلف اختلافاً بيناً عن الذي تعودته في تلك المدينتين وفي جامعتيهما البارزتين
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
ومن وجوه هذا الاختلاف أن جامعة برنستون كانت تتقيد تقييداً في قبول الطلاب الى الدراسات التخصصية العليا. ولم تكن تختارهم إلا بعد تفحص دقيق لدراساتهم السابقة ومستواهم فيها. فلم يكن في هذه الدراسات في عهدي سوى مائتي طالب، فيما أن الجامعات الكبرى كانت تعج بالمئات أو بالآلاف. وقد اهتم أحد عمداء هذه الدراسات اهتماماً خاصاً بمناهجها وحياة أفرادها
كان المشرف على دراستي في جامعة برنستون الدكتور فيليب حتي الذي كنت أعد نفسي لخلافته في أستاذية التاريخ العربي في الجامعة الأميركية في بيروت. ولقد أشرت سابقاً الى فضيلة السابقين عليّ. وقد قادتني ظروفي الآن الى برنستون لأتلقى فضلاً جديداً منه: فضل الإشراف على إكمال تحصيلي التخصصي. ولقد كان الدكتور حتي شخصية مميزة حقاً. فمن الناحية العلمية كان منكباً إنكباباً تاماً على دراسة التاريخ العربي وتدريسه، وكانت جهوده التعليمية منقسمة الى الدروس العامة في تاريخ الشرق الأدنى التي كان يلقيها على طلاب درجة البكالوريوس في الجامعة. وقل إن وجد قبل التحاق الدكتور حتي الى قسم الدراسات الشرقية بجامعة برنستون قسم يعنى بالدراسات العربية عناية مركزة
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة