المعلم والمرشد خارج المفهوم الضيق للتعليم
اتبعت فيما سبق أربعة خطوط لاهتماماتي في تلك السنوات (١٩٣٠ – ١٩٤٥) من عملي في الجامعة الأميركية:التمرس باللغة العربية أداة تدريس وخطابة وكتابة، وبناء برنامجي التدريسي في التاريخ العربي، ومزاولتي للبحت العلمي والتحرير والنشر في ميدانه، واسهامي في الاشراف على جانب النشاط الطلابي خارج الدروس النظامية.
وثمة خطا آخر اتبعته، وهو معالجة بعض القضايا الفكرية أو الاجتماعية التي كانت سائرة في تلك الأيام، سواء عن طريق المحاضرات أو الخطب أو المقالات. لم أحصر همي داخل أسوار الجامعة بل بسطته الى خارجها. ولم أقصره على اختصاصي الذي هو التاريخ، بل مددته الى الشؤون الأخرى، على اعتبار اني لست أستاذا فحسب، بل مواطن مفكر، وان علي في هذا المجال الثاني مسؤولية يجب أن لا أهملها. فكتبت وخطبت في موضوعات تمت بصلة الى الاجتماع والثقافة وغيرها من جوانب الحياة. وكان الصراع محتدما حينذاك حول: القومية: معناها ومضمونها ونطاقها. فأقبلت على هذا الموضوع، وولجت حلبة الصراع فيه .
بين الدعوات التي كنت أتلقاها لإلقاء خطب أو محاضرات دعوة تلقيتها من طلبة الجامعة السورية لإلقاء محاضرة ضمن برنامج المحاضرات التي كانوا ينظمونها ويدعون إليها خطباء من الخارج. وكان موضوع محاضرتي "الوعي القومي" أشرت فيها الى أن هذا الوعي لا يكون صحيحا أو سليم النتائج إلا اذا استند الى حكم قومي مستمد من فلسفة قومية، فكان لهذه المحاضرة أثرها الطيب في صفوف الطلبة وغيرهم من المستمعين، وقد جاءت في الوقت الذي كان ميشيل عفلق وصلاح البيطار يعمــلان لتأسيس حزب البعث، فكانت [الشرارة] التي أثارت النقاش بين الشباب القومي في دمشق وخارج دمشق
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وقد قامت بيني وبين انطون سعادة - وكان حينذاك يرتاد مكتبة الجامعة ويقطن بجوارهـا - مساجلات ومناقشات عديدة لم يستطع أحد بنتيجتها أن يقنع الآخر بوجهة نظره أو أن يحوله عن معتقده. وعندما كثر أعضاء الحزب السوري القومي بين طلبة الجامعة وفي محيطها كثرت المساجلات بينهم وبين غالبية الطلاب الميالين الى الفكرة العربية، وعنفت هذه .... أحيانا داخل الجمعيات الطالبية وخارجها...
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
وقد كان نصيبي أن أعين مستشارا لجمعية الطلاب الرئيسية في الجامعة، "العروة الوثقى" وهي جمعية عربية تأسست بعيد الحرب العالمية الأولى، وقد أخذ أمرها يعظم في الجامعة حتى غدت أهم جمعية طالبية فيها، ومن أشهر الجمعيات الطالبية في العالم العربي…… أن "العروة" كانت تمثل تجمعا لطلاب من مختلف البلاد العربية، في وقت كانت هذه البلاد (تشهد) غليانا وطنيا مضطربا، فكانت ميدان لتصارع الأفكار والعقائد القومية، ومنبتا لبعض التنظيمات السياسية كحركة "القوميين العرب" وحزب البعث والحزب السوري القومي وغيرها
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة
فإذا أردت أن أجمع القول في مختلف آثار نشاتي إلى نهاية تحصيلي الجامعي وبداية ممارستي المهنية للخصتها في توجهات أربعة: الإختيار العلمي والتعليمي، والانتهاج الليبرالي الديمقراطي، والإنتماء القومي العربي، والإحساس بالمسؤولية في تفكيري وعملي..... ولا شك أن المهنة التي قادتني الظروف إلى مزاولتها كانت قابلة لرعاية هذه التوجهات وتعزيزها. أعني بذلك المهمة الجامعية التي قضيت في ممارستها معظم سني حياتي: أكثر من أربعة عقود (١٩٣٠-١٩٧٧) في الجامعة الأميركية في بيروت أستاذا ونائب رئيس، ورئيسا بالوكالة، وثلاث سنوات رئيسا للجامعة السورية في دمشق (١٩٤٩-١٩٥٢)، وخمس عشرة سنة مشاركا في "رابطة الجامعات الدولية" المرتبطة باليونسكو: عشرا منها (١٩٥٥-١٩٦٥) عضو في مجلسها الإداري، وخمسا (١٩٦٥-١٩٧٠) رئيسا عاملا، ومنذ ١٩٧٠ أحد رؤسائها الفخريين مدى الحياة. فلقد أتاحت لي هذه المهنة ، بل هذه "المهمة" إرضاء نزعاتي الأربع المذكورة سابقا، وذلك عن طريق التعليم والبحث والتدريب البحثي من جهة، والتكوين القومي من جهة أخرى
قسطنطين زريق، سيرة ذاتية غير منشورة